كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأظهر القولين عندي: أنه لا يكون قاذفًا ولا يحد، لأنه حكى عن غيره ولم يقل من تلقاء نفسه، ويحتمل أن يكون صادقًا، وأن الذي أخبره أنكر بعد إخباره إياه كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلًا وأنكر المشهود عليه، فلا يكون الشاهد قاذفًا. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: أظهر قولي أهل العلم عندي فيمن قذف رجلًا بالزنى، ولم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف أن الحد يسقط عن قاذفه، لأنه تحقق بزناه أنه غير محصن، ولو كان ذلك لم يظهر إلا بعد لزوم الحد للقاذف، لأنه قد ظهر أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على من قذفه، فلا يحد لغير عفيف اعبتارًا بالحالة التي يراد أن يقام فيها الحد، فإنه في ذلك الوقت ثبت عليه أنه غير عفيف.
وهذا الذي استظهرنا عزاه ابن قدامة، لأبي حنيفة، ومالك، والشافعي والقول بأنه يحد هو مذهب الإمام أحمد.
قال صاحب المغني: وبه قال الثوري، وأبو ثور، والمزني، وداود. واحتجوا بأن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب.
والأظهر عندنا هو ما قدمنا، لأنه تحقق أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على قاذفه، فلا يحد لمن تحقق أنه غير عفيف.
وإنما وجب الحد قبل هذا، لأن عدم عفته كان مستورًا، ثم ظهر قبل إقامة الحد. والعلم عند الله تعالى.
المسألة التاسعة: أعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين، أنه ليس بقذف، ولا يحد قائله، لأنه رماه بفعل لا يعد زنا إجماعًا، خلافًا لابن القاسم من أصحاب مالك القائل: بوجوب الحد زاعمًا أنه تعريض به. والعلم عند الله تعالى.
المسألة العاشرة: اعلم أن حد القذف لا يقام على القاذف إلا إذا طلب المقذوف إقامة الحد عليه، لأنه حق له، ولم يكن للقاذف بيَّنه على ما ادعى من زنا المقذوف، لأن الله يقول: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ومفهوم الآية: أن القاذف لو جاء بأربعة شهداء على الوجه المقبول شرعًا أنه لا حد عليه، وإنما يثبت بذلك حد الزنا لعى المقذوف، لشهادة البينة، ويشترط لذلك أيضًا عدم إقرار المقذوف، فإن أقر بالزنا، فلا حد على القاذف. وإن كان القاذف زوجًا اعتبر في حده حد القذف امتناعه من اللعان. قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافًا في هذا كله ثم قال: وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد، فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط، وبهذا قال الشافعي، وأبو ثور. وقال الحسن وأصحاب الرأي: لا يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود. فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها، وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد، ولأنهم قالوا تصح دعواه، ويستحلف فيه، ويحكم الحاكم فيه بعلمه، ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف. فدل على أنه حق الآدمي. اه من المغني، وكونه حقًا لآدمي هو أحد أقوال فيه.
قال أبو عبد الله القرطبي: واختلف العلماء في حد القذف، هل هو من حقوق الله، أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؟
الأول: قول أبي حنيفة.
والثاني: قول مالك والشافعي.
والثالث: قاله بعض المتأخرين.
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقًا لله تعالى وبلغ الإمام اقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا، وإن كان حقًا للآدمي، فلا يقيمة الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف اه كلام القرطبي.
ومذهب مالك وأصحابه كأنه مبني على القول الثالث، وهو أن الحد يسقط بعفو المقذوف قبل بلوغ الإمام، فإن بلغ الإمام، فلا يسقطه عفوه إلا إذا ادعى أنه يريد بالعفو الستر على نفسه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن القذف حق للآدمي وكل حق للآدمي فيه حق الله.
وإيضاحه: أن حد القذف حق للآدمي من حيث كونه شُرَّعَ للزجر عن عرضه، ولدفع معَّرة القذف عنه. فإذا تجرأ عليه القاذف انتهك حرمة عرض المسلم، فكان للمسلم عليه حق بانتهاك حرمة عرضه، وانتهك أيضًا حرمة نهى الله عن وقوعه في عرض مسلم، فكان لله حق على القاذف بانتهاكه حرمة نهيه، وعدم امتثاله، فهو عاص الله مستحق لعقوبته، فحق الله يسقط بالتوبة النصوح، وحق المسلم يسقط بإقامة الحد، أو بالتحلل منه.
والذي يظهر على هذا التفصيل أن المقذوف إذا عفا وسقط الحد بعفوه أن للإمام تعزير القاذف لحق الله. والله جل وعلا أعلم.
المسألة الحادية عشرة: قال القرطبي: إن تمت الشهادة على الزاني بالزنا ولكن الشهود لم يعدلوا، فكان الحسن البصري، والشعبي يريان ألا حد على الشهود، ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد، والنعمان، ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: وإذا شهد عليه أربعة بالزنا وكان أحدكم مسخوطًا عليه أو عبدًا يجلدون جميعًا. وقال سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون، فإن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية، ولا شيء على الآخرين، وكذلك قال قتادة، وحماد، وعكرمة، وأبو هاشم، ومالك، وأحمد، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن قال عمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوًا، وأخذوا ربع الدية وعليه الحد. وقال الحسن البصري: يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت، وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل، وبه قال ابن شبرمة اه كلام القرطبي. وقد قدمنا بعضه.
وأظهر الأقوال عندي: أنهم إن لم يعدلوا حدُّوا كلهم لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة كمن لم يأت بشيء وأنه إن أقر بأنه تعمد الشهادة عليه، لأجل أن يقتل يقتص منه. وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: قال القرطبي: قال مالك، والشافعي من قذف من يحسبه عهدًا فإذا هو حر فعليه الحد، وقاله الحسن البصري، واختاره ابن المنذر، ومن قذف أم الولد حد.
وروي عن ابن عمر. وهو قياس قول الشافعي، وقال الحسن البصري: لا حد عليه. انتهى منه.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: أما حده في قذف أم الولد، فالظاهر أنه لا يكون إلا بعد موت سيدها، وعتقها من رأس مال مستولدها، أما قبل ذلك فلم تتحقق حريتها بالفعل، ولاسيما على قول من يجيز بيعها من العلماء. والقاذف لا يحد بقذف من لم يكن حرًا حرية كاملة فيما يظهر، وكذلك لو قيل: إن من قذف من يظنه عبدًا، فإذا هو حر لا يجب عليه الحد لأنه لم ينو قذف حر، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف: ما قصدت قذفك ولا أقول: إنك زان، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبدًا فأنت عفيف في نظري، ولا أقول فيك إلا خيرًا والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، أو قذف واحدًا مرات متعددة. وقد قدمنا خلاف أهل العلم، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات الحج.
قال ابن قدامة في المغني في شرحه لقول الخرقي: وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة، فحد واحد إذا طالبوا أو احد منهم، ما نصه: وبهذا قال طاوس والشعبي: والزهري، والنخعي، وقتادة، وحماد، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وصاحباه، وابن أبي ليلى وإسحاق. وقال الحسن وأبو ثور، وابن المنذر: لكل واحد حد كامل، وعن أحمد مثل ذلك، وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم، فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات، ولنا قول الله تعالى {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وأولئك هُمُ الفاسقون}: [النور: 4] ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة، ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حدًا واحدًا، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدًا، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف، وتزول المعرة، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفًا منفردًا، فإن كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في آخر، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر فإذا ثبت هذا، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم، وإن طلبه واحد أقيم الحد، لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل، فأيهم طالب به استوفى، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها، إذا قام به واحد سقط عن الباقين، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به، واستيفاؤه لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه، وليس للعافي الطلب به، لأنه قد أسقط حقه.
وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى، أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحدّ واحد، وكذلك إن طلبوه واحدًا بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد، وإن طلبه واحد فأقيم له، ثم طلبه آخر أقيم له، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة، لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه، وقع استيفاؤه لجميعهم. وإذا طلبه واحد منفردًا كان استيفاؤه له وحده، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم، سقاطهم، وإن قدف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد وبهذا قال عطاء والشعبي، وقتادة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة والشافعي. وقال حماد ومالك: لا يجب إلا حد واحد، لأنها جناية توجب حدًا، فإذا تكررت كفى حد واحد، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء، أو شرب أنواعًا من المسكر، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديو والقصاص، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق الله تعالى إلى أن قال: وإن قذف رجلًا مرات فلم يحد فحد واحد رواية واحدة، سواء قذفه بزنا واحد أو بزينات، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم، وحكي عن ابن القاسم: أنه أوجب حدًا ثانيًا، وهذا يخالف إجماع الصحابه، فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانيًا فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان، فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة، وجاء زياد فقال ما عندك؟ فلم يثبت فامر بجلدهم فجلدوا، وقال شهود زور. فقال ابو بكرة: أليس ترضى أن أتاك رجل عندك يشهد رجمه؟ قال: نعم. والذي نفسي بيده فقال أبو بكرة: وأنا أشهد أنه زان، فأراد أن يعيد عليه الحد فقال علي يا أمير المؤمنين: إنك إن أعدت عليه الحد، أوجبت عليه الرجم. وفي الحديث آخر: فلا يعاد في فرية جلد مرتين. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله قول علي: إن جلدته فأرجم صاحبك، قال:
كأنه جعل شهادته شهادة رجلين: قال أبو عبد الله: وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال يقول: إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدًا آخر، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان نظرت، فإن قذفه بعد طول الفصل فحدّ ثان، لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدًا بحيث يمكن من قذفه بكل حال، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان.
إحداهما: يحد أيضًا لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل، ولأن سائر أسباب الحد، وإذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب.
والثانية: لا يحد، لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقبه كما لو قذفه بالزنا الأول. انتهى من المغني، وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة او قذف واحدًا مرات.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: هذه المسائل لم نعلم فيها نصًا من كتاب ولا سنة.
والذي يظهر لنا فيها والله تعالى أعلم: أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع.
والأظهر عندنا: أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد، وأنه إن رماه بالزنا بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضًا، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد، كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة، وإن كان القذف الثاني غير الأول. كأن قال في الأول: زينب بأمرأة بيضاء، وفي الثاني قال: بامرأة سوداء، فالظاهر تكرره والعلم عند الله تعالى.